لم يخطر ببالي يوما أن للكلمات أطلالا، تحن إليها القلوب، أطلالٌ نقف عليها أزمنة طويلة، نذرف على فوضاها عبرات شديدة الملوحة، كلمات قضت، لكننا لا نزال نصر على أنها حية، رغم أنها غادرت الديار إلى غير الديار.
وليت أن الكلمات وبخاصة تلك التي تصف الأحداث، تصطف إلى اليمين، لتفسح لنا المجال لنعبر الدرب، بدون أحمال.
قد نكتشف في متأخر من الوقت أن كلماتنا قيود، وسلاسل ترهقنا بالماضي، وتحبس المستقبل، وتزيد من تعب كاهل شخص به ما به من اشتياق للارتياح، للسكون، مشتاق لأن يجلس في زاوية من التاريخ، يشاهد الأحداث فلا يصفها كما كانت سالف عادته – ليس لأنه فقد إبداعه ومقدرته على الوصف- لكنه يحن إلى ذلك الظل المملوء سكينة وهدوءا ، يريد أن يشاهد الأحداث فلا يعلق عليها، يدعها تمر، يودعها بابتسامة واثقة كتلك التي استقبلها بها من قبل.
لقد سئم صاحبنا حزنه، وقرر أن يتودع منه، لقد طرق كل الأبواب التي كانت من قبل أن يمد إليها يده موصدة، وظلت كذلك من بعد، لكن بقي باب واحد لم يكن موصدا أبدا ولن يكون، فلك الحمد يالله أن جعلت بالدعاء بابا يلتجأ به إليك، نطرقه حيثما كنا وأيان شئنا...
جمع صاحبنا كل ورقة دون فيها حزن وألم، وأشعل فيها نارا كادت أن تذهب به كما التهمت ورقه، لقد نسي أن إحراقها لن يعني زوال حزن طالما شكك به المشككون، وأوله المأولون، ولم يلتمسوا له أي عذر، رغم أنه كان واعيا بهم، مستوعبا لهم عندما يتكلمون، كان يفهمهم حتى آخر قطرة من كلامهم، وربما كان في قرارة نفسه عاذرا لهم، فهو ليس ينطق، خرست منها مخارج حروف الألم، وانتقلت طاقتها تسري إلى يمينه، تحمله بين وقت وآخر ليصهر الكلمات التي من المفترض أن تخرج صوتا، إلى حروف جميلة، تنقش في قلوب الأوراق موسيقاها، لا لتلامس الآذان، بل لتلامس أوتار القلوب عازفة أجمل الألحان، فتراها تحرك التساؤلات تارة، وتحرك المشاعر طورا آخر.
لقد سمع من أصحابه الكثير، أحيانا كان يترك دفاتره على المقاعد في الجامعة ويغادر المكان ليحضر شيئا أو ليرتاح قليلا من عبئها، وبعد أن يعود، يجد زملائه قد فتشوا ما قد خبأ بين طياتها، وتراه يزخر وجهه بالألوان، غير مخفٍ لتضايقه منهم، و استيائه من تفتشيهم لمتعلقاته، وقد يسألونه عن معناها، والبعض يناقشه فيها، وقسم أخير يبتسم ويكيل له الاتهامات.
وأحيانا كان يطرب مسامعهم مختارا بشي قد كتبه، فيرى علامات الانبهار تتراقص على وجوههم ، لم يكن يصدق أن كلماته لها ذاك السحر الخاص، كلماته بالنسبة له " متنفسه الخاص" فقط، لقد باتت كلماته تطبع في ذاكرتهم ألوانا ورسوما جميلة، ما أجمل أن يترك المرء بكلماته ذاك الأثر الحسن أن يمسح بالكلمات على الجراح فينفض عنها تراكمات الألم، أن يدفن بها آبار الحزن والوجد.
إذا كانت الكلمات مؤثرة لهذه الدرجة، فلم لا نهجر أطلالها، لماذا فقط للكلمات الحزينة طلل نقف عليه، ونستوقف المارين به، ربما لأن الفرح الذي قد تكون الكلمات مؤهلة لحمله، ليس بحاجة إلى ما يذكرنا به كآثار الراحلين عن الديار، لا يجب أن يكون الفرح ضيف يرتحل، بل عليه أن يكون مقيما بيننا، وبذلك لن نقف يوما على طلله.
كوّر صاحبنا الحزن في يديه، وضغط عليه براحته كأنه ورقة ضجت بالخربشات، ورمى به مودعا لحزنه، كان وداعا لا يحمل أي معنى لحزن الفراق أو لوعته.
صار يلتمس النور نور المستقبل، في درب حف بالمصاعب، يعاهد نفسه أن يعد نفسه بصدق للعمل، استقال من ألمه، وأدعى بأن كلماته لم تعد بحاجة للأطلال.